غزة/دعاء الحطاب:
داخل مخيم التوبة للنازحين غرب مدينة دير البلح، تجلس المواطنة أم خالد صبح (45 عامًا) وأطفالها داخل خيمة صغيرة تمزقت واهترأت بعد عام ونصف من النزوح المتكرر، وعيناها تراقبان بقلق حركة الغيوم والرياح العاتية، خشية التعرض لشتاء قاسٍ يغرق ما تبقى من أمتعتهم وملابسهم ومقتنياتهم كما جري سابقا.
وفي أركان الخيمة القماشية التي باتت كل ما تمتلكه (صبح)، تتوزع بعشوائية فرشات اسفنجية و وسائد، و صرة ملابس بالية وبعض الأغطية القديمة التي تخفف عليهم برودة الشتاء، وعلى طاولة صغيرة أسموها (المطبخ) كانت زجاجة مياه قديمة وأواني فارغه تنتظر أهل الخير لملئها لعلها تسد جوع الأطفال بعد طول انتظار. وعلى وقع الرياح الباردة التي بدأت تجتاح سماء قطاع غزة، تعيش» صبح» وعشرات آلاف النازحين حالة من القلق المتصاعد بعد أن أعلنت الأرصاد الجوية الفلسطينية اقتراب منخفض جوي عميق بدء ضرب الأراضي الفلسطينية أمس الأربعاء، ويستمر حتى الجمعة، مصحوباً بكتلة هوائية باردة، و يطرأ انخفاض ملموس على درجات الحرارة. ويتعمق تأثير المنخفض اليوم الخميس، وتساقط زخات غزيرة من الأمطار مصحوبة بعواصف رعدية وتساقط البرد أحياناً على معظم المناطق، مع هبات قوية أحياناً تصل سرعة بعض الهبات حوالي 50 كم/ساعة والبحر مائج.
وغرقت مئات خيام النازحين في مواصي خانيونس وفي مدينة غزة وعلى شواطئ القرارة ودير البلح الليلة الماضية، مع بدء الساعات الأولى للمنخفض.
مما يزيد منسوب الخوف لدى سكان الخيام أن القطاع يعيش أصلا كارثة إنسانية ممتدة، إذ انعدمت المقومات الأساسية للحياة، وتحولت مساحات واسعة من الأراضي إلى تجمعات هشة للنازحين الذين يفتقدون أدنى مقومات الحماية من البرد والسيول.
مأساة ومعاناة مستمرة
وبصوت مرتجف من شدة البرد، تروي صبح لـ»الاستقلال» حجم المأساة: “كل قطعة في الخيمة جبناها بطلوع الروح و دفعنا دم قلبنا عليها، وما بدنا نخسرها مهما كانت صغيره، فهى كل ما نملك».
وتقول بألم:» طوال الوقت نراقب حركة الغيوم المتراكمة بخوف شديد، وندعو الله ألا تمطر، خشية تكرار مأساة الغرق، فخيمتنا من القماش وتتسرب إليها المياه ونغرق»، مستدركة:» سبق أن عشنا مأساة الشتاء، و كنا نضطر إلى الوقوف داخل الخيمة لأيام عديدة جراء تسرب المياه إليها، و الأطفال كانوا يصابون طوال الوقت بنزلات برد».
وأضافت: «نستخدم الأغطية والأكياس البلاستيكية لإغلاق الثقوب، لكن كل ذلك لا يكفي، الأطفال يرتجفون ليلا، الآن مع أمطار غزيرة وسيول، سيكون الوضع كارثيا».
وأوضحت أن الأصعب هو العامل النفسي والتفكير المتواصل في مصيرنا وسط انعدام المساعدات من خيام وشوادر وغيرها، وانتفاء أي مدخول مادي.
وأشارت إلى أنها لم تستطع شراء نايلون أو شارد بسبب ضيق الحال، حيث يبلغ ثمن الشادر البلاستيكي لتغطية سقف الخيمة لحمايتها من الأمطار 130 شيقل (40 دولار)، مضيفةً: «نعيش على نفقة أهل الخير و المحسنين، منزلنا مدمر واحتياجات أسرتي كثيرة، الأطفال بحاجة للطعام والشراب ومستلزمات الشتاء و الإيواء والملابس وهذا أمر لا نستطيع القيام به».
تجربة قاسية
وغرب مواصى خانيونس التي تكتظ بالنازحين، تتفاقم معاناة سكان الخيام إذ لا يتوقف المواطن أبو براهيم مهدي، عن إمساك «كريك (الرفش)» لإقامة سواتر ترابية تحمي خيمته من الأمطار المتوقعة.
ويقول مهدي لـ»الاستقلال»:» خلال الأشهر الماضية حاولت أن أتعامل مع الواقع ببساطة، اشتريت شوادر لتغطية سقف الخيمة حتى أبطئ تسرب المياه، لكنّ الحقيقة كانت واضحة فالخيمة نفسها أصبحت غير صالحة».
ويتابع :» أن الخيمة أنهكها صيف قاسٍ وشتاء سبقه برياح لا ترحم، فالقماش لم يعد كما كان، وأعمدة الخيمة فقدت جزءًا من صلابتها».
وأضاف:» في المنخفض الجوي المتوقع، خصوصًا مع الحديث عن رياح قوية، هناك احتمال حقيقي أن تُخلع الخيمة من مكانها، هذه ليست مبالغة، بل تجربة عشناها في موجات سابقة، حيث كانت الخيام تتحرك مع الهبات الأولى للريح».
وأشار إلى أن مياه الأمطار كانت تتسرب إلى داخل الخيمة بالمنخفضات الماضية، لكنها كانت لفترات قصيرة ويمكن التعامل معها، أما أمام منخفض عميق وطويل، فالأمور ستكون مختلفة وأكثر قسوة.
وأوضح أن أرض منطقة المواصى رملية وطينية في الوقت ذاته، تمتص الماء أولاً ثم تتحول إلى مستنقع، وأي تساقط متواصل للأمطار يعني أن المياه ستدخل الخيام بلا عناء، وسيكون إخراجها مهمة شبه مستحيلة.
ونوه إلى أن ما يقلقه ليس معاناة الشخصية فحسب، بل المشهد الأوسع لآلاف العائلات النازحة في ظروف مماثلة، «خيام متلاصقة، مساحات لا تتوفر فيها مقومات الحماية الأساسية، بنية هشة تتأثر بأي تغير طفيف في الطقس»، لافتاً إلى أن أي منخفض قوي قد يتحول بسهولة إلى أزمة إنسانية في وقت قصير.
وبين أن الريح وحدها كافية لإرباك حياة المخيم، «الأعمدة الضعيفة، الأغطية التي تتمزق بسرعة، الخيام المتجاورة التي قد تتطاير أجزائها مع أول هبة قوية»، هذه تفاصيل يومية أصبحت جزءًا من معادلة البقاء هنا.
وانتهى حديثه قائلا: «نحن نحاول قدر الإمكان تعزيز الخيام وشد الحبال ورفع الفرش، لكن الواقع يتجاوز قدرة الأفراد، المنخفض الحالي ليس مجرد حالة جوية، بل اختبار جديد لمخيمات بُنيت على عجل وتعيش تحت ضغط دائم».
تحذيرات من الغرق
وبين خيام مهترئة وأراض منخفضة ومخيمات مكتظة، ترتفع التحذيرات من سيناريوهات الغرق والانهيارات في قطاع أنهكته الحرب، ولم يترك له الحصار ولا الظروف الإنسانية أي مساحة للنجاة.
وحذر الدفاع المدني في غزة من المخاطر المتوقعة للمنخفض الجوي العميق على القطاع، مؤكدًا أن مخيمات ومراكز الإيواء والمباني الآيلة للسقوط ستتعرض إلى ضرر كبير للغاية ويمكن أن تنهار ويسقط ضحايا.
وشدد أن مخيمات الإيواء الموجودة في مناطق منخفضة ستغرق بشكل كامل ولن يكون هناك استيعاب لكميات مياه الأمطار.
كما حذر المكتب الإعلامي الحكومي من «مخاطر حقيقية للمنخفض، تتمثل في غرق الخيام، وتجدد المأساة التي يعيشها أكثر من مليون ونصف المليون من النازحين الذين يقيمون في خيام مهترئة منذ أكثر من عام دون حلول أو بدائل حقيقية».
وكانت آلاف خيام النازحين غرقت في المنخفض الأول الذي ضرب فلسطين قبل أسبوعين، وتسبب بتجديد معاناة السكان، ومخيمات الإيواء المنتشرة في كافة محافظات القطاع.


التعليقات : 0